Pages

Pages

Thursday, October 24, 2019

الشبھات حول الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

التقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد:
إن الإسلام هو الدين الذي اختاره الله - تعالى - لعباده، منذ أن خلق الخليقة الأولى آدم عليه السلام، يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:3، الآیة:19) وجعل لهذا الدين محورًا واحدًا إلى يوم القيامة، هو توحيده جل وعلا، وهو المحور الذي كان يدعو إليه الأنبياء والرسل أقوامهم وأتباعهم، يقول جل ثناؤه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل:16، الآیة:36) وقال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاریات:51، الآیة:56) ولكن أحكام هذا الدين كانت تختلف من رسالة إلى أخرى، وكانت تلك الأحكام مقتصرة على أقوام وأفراد في زمان ومكان محددين، حتى بعث الله - تعالى - آخر رسله صلى الله عليه وسلم ومعه آخر رسالة، فجاءت هذه الرسالة عامة للإنس والجن، والأبيض والأسود، والعرب والعجم، وهي الرسالة التي حملت مضمونين جديدين، هما الرحمة والعالمية، لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:21، الآیة:107) إن هذا الدين العالمي الذي يخاطب الناس كافة، لا بد أن يتميز بصفات وخصائص تتناسب مع أحوال الناس وظروفهم في البلاد المتفرقة من العالم، فجاء يحمل في أحكامه التيسير والسعة، فلا تخلو فريضة من الفرائض إلا وقد أضفى عليها الله - تعالى - من اليسر ما يجعل الإنسان قادرًا على تطبيقها والقيام بها على الصورة التي أرادها الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه - عز وجل - لا يكلف النفس فوق طاقتها أبدًا : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة:2، الآیة:286) وتتوضح لنا هذه الحقيقة في رسالة الإسلام بشكل أكثر عندما تتم المقارنة بين ما كانت عليها الأمم السابقة من المشقة والعنت، وما صارت عليه أمة الإسلام من يسر وسهولة، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:7، الآیة:157) فقد خفف الله - تعالى - عن عباده الأغلال والأثقال التي كانت ترافق شرائعهم فتثقل بها كواهلهم، وهذا فضل كبير من الله سبحانه تعالى لهذه الأمة، مع هذه السماحة واليسر حاول أعداء الإسلام عبر العصور إثارة الشبهات حول الإسلام وكان للقرآن والحديث من ذلك الحظ الأوفر.
        وبعد فشل الحروب الصليبية اشتد ترويج هذه الشبهات خوفا من المد الإسلامي من جهة وطمعا في القضاء على الإسلام من جهة أخرى؛ فتوالت حملات التشكيك من خصوم الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان في مصادره القيمة من القرآن والحديث خاصة وفي مبادئه وتعاليمه عامة، ولا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم في أثواب جديدة يحاول مروجوها أن يضفوا عليها طابعا علميا زائفا.
ووجه الغرابة في ذلك يتمثل في أن الإسلام في الوقت الذي جاء فيه يعلن للناس الكلمة الأخيرة لدين الله على الأرض لم ينكر أحد من أنبياء الله السابقين ولا ما أنزل عليهم من كتب سماوية، ولم يجبر أحدا من أتباع الديانات السماوية السابقة على اعتناق الإسلام، ولم يقتصر الأمر على عدم الإنكار، و إنما جعل الإسلام الإيمان بأنبياء الله جميعا وما أنزل عليهم من كتب عنصرا أساسيا من عقيدة كل مسلم بحيث لا تصح هذه العقيدة بدونه، ومن شأن هذا الموقف المتسامح للإسلام إزاء الديانات السابقة أن يقابل بتسامح ممثل وأن يقلل من عدد المناهضين للإسلام. ولكن الذي حدث كان على العكس من ذلك تماما؛ فقد وجدنا الإسلام على مدى تاريخه يتعرض لحملات ضارية من كل اتجاه، ومواجهة ذلك ببذل جهود علمية مضاعفة من أجل توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، ونشر ذلك على أوسع نطاق.
        ولم يقصر علماء المسلمين على مدى تاريخ الإسلام في القيام بواجبهم في الرد على هذه الشبهات كل بطرقته الخاصة وبأسلوبه الذي يعتقد أنه السبيل الأقوم للرد، وهناك محاولات جادة بذلت في الفترة الأخيرة للدفاع عن الإسلام في مواجهة حملات التشكيك.
عناصر البحث في:
(1) اليسر والسماحة في الإسلام.
_مفهوم اليسر.
_الدين الإسلامي قائم على اليسر والسماحة .
_مجالات التيسير والسماحة في الإسلام .
(2) شبهات حول القرآن:
_شبهات المستشرقين حول ربط الإسلام بعبادة الأوثان.
_شبهات المستشرقين حول الحنيفية وأنها مصدر من مصادر القرآن.
_اعتبار الصابئة من مصادر القرآن.
(3) شبهات حول النبي صلى الله عليه وسلم وسننه.







(1) اليسر والسماحة في الإسلام:
مفهوم اليسر: اليسر لغة: ضد العسر، ومنه "الدين يسر" أي سهل سمح، قليل التشديد. (المعجم الوسيط، مادة: يسر)
اليسراصطلاحا: فهو تطبيق الأحكام الشرعية بصورة معتدلة كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تشدد يحرم الحلال، ولا تميع يحلل الحرام .
الدين الإسلامي قائم على اليسر والسماحة: إن الدين الإسلامي بمجمله قائم على اليسر ورفع الحرج ابتداء من العقيدة وانتهاء بأصغر أمور الأحكام والعبادات بشكل يتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتقبله النفس البشرية من غير تكلف أو تعنت، وهذا ما أشار إليه الله تعالى في مواطن كثيرة من كتابه العزيز منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:22، الآیة:78) وقوله أيضًا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:2، الآیة:185) وقوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:4، الآیة:28)
وتلت هذه الآيات الكريمات السنة النبوية بأحاديث كثيرة تحمل معاني اليسر في أمور الدين وعدم التنطع والتشدد في العبادات والطاعات؛ فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن من أهم ما تميزت به رسالة الإسلام عن غيرها من الرسالات السماوية السابقة هي السماحة واليسر كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (صحيح البخاري، كتاب الإیمان، باب الدين يسر، ج1ص23،رقم:39)
        والمتعمق في السيرة النبوية يجد أن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع صحابته مبني على منهج التيسير والسماحة، والشواهد أكثر من أن تعد أو تحصى، ولكن نكتفي بسرد حادثة وقعت لأحد الصحابة وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يريد مخرجا لها وهو صحابي فقير لا يملك قوت يومه، وهي تغني عن جميع ما كان يقع للصحابة من إحراجات.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل؛ فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((هل تجد رقبة تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذها فتصدق بها)) فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) (صحيح البخاري،كتاب الصوم،باب إذا جامع في رمضان،ج3ص32،رقم:1936)
مجالات التيسير والسماحة في الإسلام:
1_ في العقيدة: تميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والعقائد بوضوح العقيدة وسهولة الإيمان بالله تعالى، حيث أمر الناس بعبادة الله وحده، وأنه الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، بيده ملكوت السموات والأرض، لا معبود سواه، وليس فيها غموض وغبش كما في العقائد الأخرى من تجزئة الواحد إلى ثلاثة، وليس فيها استهانة بالعقل الإنساني ليعبد أحجارا وأشخاصا وحيوانات كما في البوذية وغيرها، وإنما هي عقيدة في غاية من اليسر والسماحة.
2_ في العبادات: يظهر مبدأ اليسر والمسامحة جليا في العبادات أكثر من غيرها من أمور الدين، حيث إنها سلوك ظاهر، فجميع العبادات قائمة على هذا المبدأ الذي خص الله تعالى به هذه الأمة من غيرها من الأمم، المفروضة منها والنوافل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)) (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه، ج 1 ص 24، رقم:43)
        3_ في المعاملات: لم يقتصر التيسير في الإسلام على العقيدة والعبادة بل تعداه إلى المعاملات التي تأخذ مساحة واسعة من حياة الإنسان العملية، فالتجارة والصناعة والزراعة والتعليم وغيرها، يدخل جميعها تحت مظلة المعاملات، والناس في المعاملات أكثر عرضة للمعاصي والآثام، لأن المحرك لها هو المال، ومعلوم مدى تأثير المال في نفس الإنسان وطباعه وسلوكه، لذلك كانت النصوص القرآنية والنبوية تترى في اتباع التيسير والمسامحة في المعاملات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) (صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ج 2 ص 730، رقم:2076) ويقول أيضا: ((من أقال مسلما أقاله الله عثرته يوم القيامة)) (السنن الكبرى للبيهقي، باب من أقال المسلم إليه بعض السلم وقبض بعضا، ج 6 ص 44، رقم:11128)
        4_ في العقوبات: لقد تميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع والقوانين في التشريع الجنائي ووضع العقوبات المناسبة لأفعال الناس التي تضر بالأنفس والأموال والأعراض وغيرها، حيث أضفت الشريعة على هذه العقوبات ألوانا من السماحة واليسر، بحيث تتقبلها النفس الإنسانية في كل أحوالها بل تطالب بها إذا وقعت مثل تلك الأفعال، وينجلي هذه السماحة والسعة من خلال ما يلي:
عقوبة قتل النفس: إن قتل النفس بغير حق يعد من أكبر الجرائم وأعظمها عند الله تعالى، يقول الله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعام:6، الآیة:151)
ويظهر يسر الإسلام وسماحته في تطبيق العقوبة على القاتل من خلال النقاط الآتية:
_لايؤخذ أحد بجريمة أحد، أي أنه لا يعاقب إلا القاتل نفسه، بدون تعسف أو تعد، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية، حيث يقتل بالرجل أكثر من الواحد، كلها بسبب جريمة قتل وقعت لأحد أفرادهم، لقوله عز وجل: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} (الإسراء:17، الآیة:33)
        _ إن من يسر الإسلام وسماحته أن جعل المجال مفتوحا أمام ولي أمر المقتول وخيره بين إحدى ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((من أصيب بدم أو خبل (الخبل: الجراح) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد؛ فقتل؛ فله النار خالدا فيها مخلدا)) (مصنف ابن أبي شيبة، ج 5 ص 463، رقم:27996)
        _ ومن يسر الإسلام أيضا وسماحته قبل تطبيق هذه العقوبة أنه يغري أهل المقتول بما عند الله تعالى، إذا تجاوزوا عن القاتل وعفوا عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((ما عفا رجل إلا زاده الله به عزا ولا نقصت صدقة من مال ولا عفا رجل قط إلا زاده الله عزا)) (مسند أحمد،ج 15ص404،رقم:9643)
        مفهوم الشبهة: الشبهة لغة الالتباس، وأما شرعا فهي: ما التبس أمره فلا يدرى أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل (ج) شبه. (المعجم الوسيط،مادۃ:شبه)
        شبهات حول القرآن:
        شبهة المستشرقين حول ربط الإسلام بعبادة الأوثان: قالوا: مما دعا الإسلام الوحدانية وكان ذلك بتأثير الوسط الوثني الذي نشأ فيه الإسلام.
        الرد عليها: لاريب أن المسلمين لا ينكرون أن الوحدانية أمر أصيل فآدم عليه السلام أنزل بالتوحيد والدعوة لعبادة الله وحده ونبذ الشرك بأنواعه وتكررت هذه الدعوة على ألسنة الرسل بين أقوامهم كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وما أرسلناك من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبیاء:21، الآیة:25)
        وقد نقل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هذه الدعوة إلى أرض الجزيرة ولكن مع تقادم العهد نسى العرب نصيبا مما ذكروا به فطمسوا التوحيد بالشرك فجاءت دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بدعوة أبينا إبراهيم عليه السلام والتوجه في سائر الأعمال لله الواحد الأحد ونبذ بعبادة الأوثان والشرك بكل أنواعه؛ فدعوة المصطفى صلی الله عليه وسلم للوحدانية لم يكن بتأثير الوسط الوثني كما زعم الممستشرقون بل في صدى للدعوة الأولى دعوة إبراهيم عليه السلام؛ لأن أصلهما واحد، والناظر في التوراة و الإنجيل والقرآن وأي كتاب سماوي آخر يجد أن هذه الدعوة متكررة على لسان كافة أنبياء الله فلا غرابة إذن من تجديد الدعوة لها في الإسلام على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم. والقرآن الكريم مليئ بالآيات القرآنية الداعية لتوحيد الله تعالى، منها: قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} (البینة:98،الآیة:5)
        كذلك أوضح القرآن هذه القضية في دعوة إبراهيم عليه السلام كما أنه كان داعية إلى هذا التوحيد، قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} (النحل:16،الآیة:120)
        شبهة المستشرقين حول الحنیفية وأنها مصدر من مصادر القرآن:
        ذهب بعض المشتشرقين ومنهم"تسدال"و"مستر كانون سل" وغيرهما إلى أن الحنیفية ورجالها قبل البعثة المحمدية هم أحد مصادر القرآن الكريم.
الرد عليها:
مفهوم الحنیفية: الحنفية هي مركبة من الحاء والنون والفاء عربية الأصل وهي بمعني الميل يقال للذي يمشي على ظهور قدميه أحنف، والأصح أن الحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل والحنيف: المائل إلى الدين المستقيم قال الله تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} (آل عمران:3، الآیة:67) والأصل هو هذا، ثم اتسع في تفسيره فقيل: الحنيف الناسك ويقال هو المختون، ويقال: المستقيم الطريقة، ويقال: هو يتحنف أي يتحری أقوم الطريق.
فالحنفاء مجموعة من الناس متفرقين مالواعن الوثنية وعن عبادة الأوثان إلى التوحيد، إذن فلم يكن هؤلاء على رأي واحد ولا طائفة واحدة تسير على شريعة واحدة ثابتة، و إنما هم نفرمن قبائل شتى ظهروا في مناطف مختلفة اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأوثان وفي الدعوة إلى الإصلاح.
        الحنفاء على دين إبراهيم: والذي يؤكد أنهم كانوا على دين إبراهيم عليه السلام ومحافظين على بقايا شرعه ما حصل من زيد بن عمرو بن نفيل كما حدثت بذلك أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري.
        بين القرآن والحنفاء: والناظر بأدنى تأمل في القرآن الكريم وما أتى به هؤلاء الحنفاء يرى البون الشاسع بينهما، يرى باسطة ما دعوا إليه ويرى مقابله قرآنا معجزا في لغته وأسلوبه قد عجز العرب جميعا عن مضاهاته مع فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم. وكما أنه من المعروف أن هذا القرآن بقي يتنزل بعد موت هؤلاء الحنفاء حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة فمن يا ترى هذه الاستمرارية له؟
        الحنفاء أتباع لا متبعون: ثم إن هؤلاء الحنفاء كانوا هم أنفسهم يخبرون الناس بقرب بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يطلبون من الناس أن يتبعوه ولا يخالفون، هم يتمنوا لو يدركوه فيسلموا معه وينصروه، فلو كانوا هم الأصل لدعوته ولتعليمه لقاموا بالدعوة لذلك بأنفسهم وتصدروا أمر الرسالة ونسبوا هذا الشرف العظيم.
        التقاء الإسلام مع الحنفاء يبطل شبهة المستشرقين: أما كون الإسلام التقى مع دعوة الحنفاء في بعض ما صرحوا به واعتقدوه، فلا غرابة في ذلك؛ لأن ما عندهم بقايا لدين إبراهيم عليه السلام والإسلام كلاهما من مصدر واحد وهو الوحي الإلهي. فمن هذا القبيل جاء الاتفاق بينهما بالدعوة إلى وحدانية الله تعالى، ومحاربة الشرك بأنواعها، و لكن كل ذلك كان في الإسلام أتم وأكمل وأشمل. والإسلام ما جاء ليهدم كل ما وجده في طريقه، بل ما كان منه موافقا للإسلام أبقاه ووضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (الأدب المفرد للبخاری،باب حسن الخلق،ص104،رقم:273) وهذا المبدأ الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان قبل بعثته؛ لأنه كان يمشي مع فطرته صلى الله عليه وسلم. وما كان منه مخالفا له فحاربه كمحاربته التعري حول البيت أثناء الطواف لعدم ملائمته حرمة المكان؛ فهذه هي نقطة اللقاء بين الإسلام والحنفية لا كما يفهم المستشرقون. وبهذا البيان يسقط المصدر المزعوم للإسلام من قبل هؤلاء المستشرقين والحمد لله رب العالمين.
(3) شبهات حول السنة النبوية.
_الاقتصار على القرآن وإنكار السنة:
قال بعض الناس الذين يزعمون أنهم من أهل القرآن، إن اللّه تعالى قد أغنانا بالقرآن من السنة لقوله فيه :{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:16،الآیة:89] فالقرآن بيّنٌ، واضحٌ، ومبيِّنٌ لكل شيء؛ فلا يحتاج معه إلى سُنة؛ فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج بها؟ لماذا نتكلف هذا مع أن اللّه تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم كتابه لقوله تعالى :{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} وهو القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فلا حاجة إلى أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لنعمل بما فيها وقد أغنانا بالقرآن عنها، ويقول سبحانه في آية أخرى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:6،الآیة:38] ويريدون بالكتاب القرآن؛ فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء؛ ففي القرآن كل شيء؛ فلا حاجة إلى السنَّة، وهذا إنكار للسنَّة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلى الاحتجاج بها في الجملة، اكتفاءً بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين .
الجواب على هذه الشبهة :
وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها: أنه أراد بقوله تعالى : فِي الْكِتَابِ، في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:6،الآیة:38] المراد به اللوح المحفوظ.
والسورة مكية، ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل، سورة البقرة مدنية، براءة مدنية، النساء مدنية، آل عمران مدنية، كثير من آيات الأحكام والفروع كثير منها مدني، وما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل في المدينة، وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ونزلت أصولها في القرآن بعد الهجرة، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة. والسورة، سورة الأنعام كلها مكية على الصحيح، قد يكون منها آيات تشبه الآيات المدنية، كآيات الذبح وذكر اسم اللّه على الذبائح، قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة، لكن الغالب عليها أنها مكية؛ فكيف يكون القرآن؟ كيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية؟ مع أن تلك الأحكام إنما نزلت أصولها في المدينة لا في مكة.
ثم عدد الصلوات وتحديد أوقاتها وعدد ركعاتها وسائر كيفياتها، لم تُعرف من القرآن إنما عُرفت من السنَّة أحكام الزكاة من جهة النصاب ومن جهة المستحقين، لم تكن عُرفت في مكة، بل فريضة الزكاة لم تكن شُرعت في مكة إنما الذي شُرع الصدقات العامة، وفرض الزكاة وبدايتها إنما كان في المدينة؛ فبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:9،الآیة:60] إلى آخر الآية التي فيها الأصناف الثمانية، ثم النصاب نصاب الزكاة ليس محددًا في القرآن، وشرطها وهو حول الحول ليس محددًا في القرآن ولا مبينًا فيه؛ فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة، وأنه لم يكن فيه كل شيء.
تفسير الكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}:
تفسير الكتاب بالقرآن في آية : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} تفسير غير صحيح، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي هدى اللّه تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. أما الآية الأخرى وهي: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فيقال فيها: المراد بالكتاب القرآن، ولكن سورة النحل التي نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة إنما نزلت أصول التوحيد وما يتصل بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وأما الفروع؛ فقد نزلت في المدينة؛ فكيف يقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} بالكتاب في هذه الآية من سورة النحل القرآن، لكن ليس المراد ببيانه لكل شيء بيانه لجميع أحكام الفروع، إنما هو مثل الآية التي قال اللّه فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:45،الآیة:25] إخبارًا عن الريح التي أرسلها اللّه جل شأنه على عاد قوم هود، أرسل عليهم ريحًا وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} وهي إنما دمرت قوم هود: دمرت عادًا ودمرت ديارهم؛ فالأمارات الحسية، أو الأدلة الحسية وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث اللّه عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم، كذلك قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} إلى آخر الآية هي مما أريد به الخصوص، وإلا ففي أي آية من الآيات بيان عدد الصلوات، وبيان تفاصيل الزكوات، أو بيان الحج إلى بيت اللّه الحرام بأصله وتفاصيله؟ الشبهات المتوجهة إلى الإسلام كثيرة والرد عليها وفور يحتاج إلى الكتاب برأسه مشتمل على المجلدات؛ فأنا أكتفي هنا على ما مضى.

الخاتمة: من خلال هذا السرد الموجز عن سماحة الإسلام ويسره في تطبيق الأحكام والقيام بالعبادات وغيرها والشبهات التي وجهت إليه والإجابة عنها ظهر أن مبدأ اليسر والسماحة ثابت في هذا الدين وكذلك وسطيته في كل جوانبه، في العقيدة والعبادة والمعاملة والسلوك وغيرها، وهو امتثال لقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرۃ:2،الآیة:143) لكن تقرير مبدأ المسامحة والتيسير في الدين لا يعني:
- الإخلال بمقاصد الشريعة والدين؛ فلا يفهم من مبدأ التيسير أنه تفريط في تطبيق أحكام هذا الدين وتنفيذ أوامره؛ لأن هذا اليسر لا يكون في إثم أو معصية كما روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في حديث سابق: ((ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه)) (صحیح البخاری، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم،ج4ص189،رقم:3560) فيجب ملاحظة ذلك والحذر منه .
والإسلام من بدايته حتى الآن يواجه المشككين فيه وشبهاتهم؛ فقالوا أن القرآن شعر وأعجمي والنبي الذي نزل عليه القرآن ساحر مجنون لكن الله تعالى رد شبهات المشككين في نحورهم وأعلمهم أن القرآن ليس بشعر وأعجمي بل هو منزل من الله سبحانه تعالى والنبي صلى الله عليه ليس بمجنون وساحر بل مصطفى مجتبى رسول الله إليهم؛ فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى لكن طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون، ومن ذرية هؤلاء المشككين ما زالو يحاولون أن يلقوا الشبهات في القرآن والسنة حتى يشتبه الإسلام على المسلين والله من ورائهم محيط؛ فخلق العلماء المحققين الذين قاوموا هذه الشبهات حق المقاومة في الأزمان كلها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا إلى الآخرة وسيقاومون مثل هؤلاء العلماء الردود والشبهات الموجهة إلى الإسلام حتى يوم القيامة إن شاء الله، هكذا فالإسلام ينمو و يزداد أهله بدون الوقوع في التردد من ناحية الإسلام في رعاية القرآن والحديث والعلماء من الجهابذة، آمين، والحمد لله رب العالمين الذي وفقني هذا العمل والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ثبت المراجع:
القرآن الكريم
صحيح البخاري
السنن الكبرى للبيهقي
مصنف ابن أبي شيبة
مسند أحمد بن حنبل
المعجم الوسيط
اليسر والسماحة في الإسلام
دفع شبهات المفترين حول القرآن الكريم
شبهات حول السنة



 أبوعاتکة أزهار أحمد الأمجدي المصباحي غفرله   
خریج كلية أصول الدين، قسم الحديث، جامعة الأزهر الشريف، مصر۔
خادم الإفتاء بمرکز تربیة الإفتاء، أوجھاگنج، بستی، یوپی، الھند۔
إی میل: fmfoundation92@gmail.com
رقم المحمول: 00918318177138

No comments:

Post a Comment